دمى ملطخة بالتراب : حكاية "نور" في ذكرى مجزرة أطفال الحرية

 

بقلم : يزن الحاج خليل

كانت شمس الثالث من حزيران عام 2011 تخط أشعتها الذهبية على أسقف منازل حي " الكيلانية " في حماة ، حيٌ هادئ يعرف بعضه بعضًا بالاسم والنسب ، في أحد أزقته الضيقة ، كانت "نور" ذات السنوات الست ، تجلس على عتبة منزل جدتها ، ترسم بقلم رصاص مكسور على قطعة كرتون مهترئة ، كانت تحلم بأن تصبح رسامة مشهورة ، ترسم الزهور الملونة والطيور المغردة ، وكل ما تراه عيناها الصغيرتان جميلاً ..



كانت "نور" طفلة مرحة ، ضحكتها تسبق خطواتها الصغيرة ، تحب اللعب مع جيرانها ، خاصة " حمزة " الذي يكبرها بعامين ، و" سالي " ذات العينين العسليتين ، في ذلك اليوم ، كان الجو مشحونًا في حماة ، أصوات المظاهرات البعيدة تصل إليهم مكتومة ، لكن الأطفال كانوا يلهون ببراءة ، غير مدركين للقدر الذي يحاك في الخفاء ..


" يا نور تعالي ساعديني في قطف النعناع من الحديقة "، نادتها جدتها بصوتها الدافئ ، تركت " نور " رسمتها على العتبة وركضت نحو جدتها ، تنثر ضحكاتها في الهواء ، كانت تحب رائحة النعناع المنعشة ، وكانت تستمتع بمساعدة جدتها في الأعمال المنزلية البسيطة ..

في تلك الأثناء ، كانت مجموعة من الأطفال الآخرين يلعبون في ساحة صغيرة قريبة ، يركضون ويضحكون ، أصواتهم تتعالى فرحًا ، كان من بينهم " عبد الله " الذي يحب كرة القدم ، و '' رغد " التي كانت تغني أغاني الأطفال بصوتها العذب ، كانت الساحة هي عالمهم الصغير ، حيث ينسون هموم الكبار ويطلقون العنان لخيالاتهم ..

فجأة ، اخترق صمت الظهيرة صوتٌ مدوٍ ، تبعه صراخٌ وعويل ، تحولت اللحظات الهادئة إلى فوضى عارمة ، هرع الناس مذعورين ، يحاولون فهم ما يحدث ، " نور " شعرت بيد جدتها تسحبها بقوة إلى داخل المنزل ، والذعر يتملك وجه الجدة الشاحب ..

" ابقِ هنا يا حبيبتي ، لا تتحركي " ، قالت الجدة بصوت مرتجف ، بينما كانت تحاول إغلاق النوافذ والأبواب بإحكام ، " نور " كانت خائفة ، لم تفهم ما يجري ، لكنها شعرت أن هناك شيئًا فظيعًا يحدث ..

بدأت الأصوات تتعالى في الخارج ، أصوات الرصاص والانفجارات الصغيرة ، وصراخٌ يمزق القلوب ، " نور " اختبأت خلف جدتها ، ترتجف خوفًا ، وعيناها الصغيرتان تتسعان رعبًا ، كانت تسمع أصواتًا مبهمة ، كلمات متقطعة عن قتلى وجرحى ..

طال الوقت الذي قضته " نور " مختبئة ، وكل دقيقة كانت تمر عليها كأنها دهر ، أخيرًا خفت الأصوات تدريجيًا ، وساد صمتٌ ثقيل ومريب ، خرجت الجدة بحذر لتتفقد الأوضاع ، وعادت بعد لحظات ووجهها أغرقه الدمع ..

" يا حبيبتي ، لقد حدث ما كنا نخشاه " ، قالت الجدة بصوتٍ مخنوق " لقد سقط ضحايا ، بينهم أطفال .. أطفال كانوا يلعبون في الساحة " ..

لم تفهم " نور " معنى كلام جدتها تمامًا ، لكنها شعرت بثقل الحزن يخيم على المنزل ، خرجت مع جدتها بحذر إلى الشارع ، وما رأته هناك صدم روحها الصغيرة ..

كانت الساحة التي لعبت فيها قبل ساعات قليلة ، تتحول إلى مسرح لجريمة مروعة ، بقع من الدماء كانت تلطخ الأرض ، وأشلاء متناثرة هنا وهناك ، رأت دمى ملقاة على التراب ملطخة بالدماء ، دمى تشبه دميتها القديمة التي تحبها ..

ورأت " نور " شيئًا آخر ، شيئًا غرس في قلبها الصغير جرحًا لن يندمل ، رأت " حمزة " ملقى على الأرض ، عيناه جامدتان تنظران إلى السماء ، بجانبه كانت " سالي " مستلقية بلا حراك ، فستانها الأبيض الصغير ملطخًا بالأحمر القاني ، وعرفت " نور " حينها أن اللعب قد انتهى ، وأن عالمها الصغير قد انهار ..

في ذلك اليوم المشؤوم ، فقدت حماة براعم يانعة ، فقدت ضحكات أطفال كانوا يحلمون بمستقبلٍ أجمل ، " نور " فقدت أصدقاءها ، فقدت براءة الطفولة في لحظة واحدة ، لم تعد " نور " الطفلة التي تركض خلف الفراشات ، نظرتها البريئة اكتسبت حزنًا عميقًا ، وضحكتها الصافية خفتت إلى الأبد ..

بعد سنوات ، كبرت " نور " ، لكن ذكرى ذلك اليوم لا تزال تطاردها في أحلامها ، تتذكر وجوه أصدقائها ، وتتذكر الدمى الملطخة بالتراب ، وتتساءل : لماذا ..؟ لماذا دفع هؤلاء الأطفال حياتهم ثمن حلمٍ بالحرية لم يعيشوه ..؟

أصبحت " نور " اليوم شابة تعمل في مجال الإغاثة ، تساعد الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم وتضرروا من الحرب ، تحمل في قلبها ألم الماضي ، لكنها تحوله إلى قوة دافعة لمساعدة الآخرين ، ترسم " نور " الآن لوحات تعبر عن أوجاع الطفولة وعن الأمل المفقود ، ربما تجد في الرسم وسيلة للتعبير عن تلك الجروح العميقة التي لا تزال تنزف ..

في ذكرى مجزرة أطفال الحرية ، تقف " نور " صامتة أمام صورهم المعلقة ، تتذكر ضحكاتهم وأحلامهم ، وتتعهد بأن تبقى ذكراهم حية ، وأن تعمل جاهدة ليومٍ لا يرى فيه أي طفل دموع الخوف أو مرارة الفقد ، حكاية " نور " هي حكاية جيلٍ كامل ، جيلٍ شهد ظلمًا وقسوة ، لكنه يصر على التمسك بالأمل ، وعلى أن يحمل مشاعل الذكرى حتى تحقيق العدالة وطي صفحة الألم ، ففي كل طفلٍ تساعده " نور " ، تحيي ذكرى "حمزة" و"سالي" و"عبد الله" ، وتؤكد أن دماءهم الطاهرة لم تذهب سدى .