للقدر رأى آخر ... تأليف الاعلامي حسين جويلي

قصة : للقدر رأى آخر

من كتاب  للقدر رأى آخر ل الإعلامي حسين جويلي 2016... دار روائع للنشر.



تلك البلاد لم تعد مثل بلادى.
 هذا الوطن لم يعد آمناً لنا.
 لم نعد نسمع صوت الطير الشادى.
هذا الوطن أضحى موطناً للآلام , الذل يركب فوق أكتافنا ليل نهار , هُدمت فوقنا الديار ... لم يبق هنا سوى الإستعمار , حتى الأقصى حُرمنا من الصلاة فيه.
 أضحوا هم أصحاب الأرض ونحن نعيش فى كنفهم , حتى العرب والمسلمين تركوا لنا الألم لنعيش فيه وحدنا , مللت العيش هنا فى أرضى , سئمت الحياة فوق هذه الأرض البائسة.
ألم يئن لىَ الرحيل ... ؟.
أقسم بالله يا فلسطين أنا لا أريد الرحيل , لكنى سأقنع والدى بالرحيل , فلم يعد لنا بيت فيكِ ... فقد هدم منزلنا ومنازل أخرى مجاورة , من أجل بناء مستوطنة يهودية.
 نحن نعيش الأن فى مخيم للاجئين , لم أفرح مثل أى فتاة  فى زهر العمر , لم أذق طعم الحياة يوماً .
سأرحل يا فلسطين , فقد وافق والدى على الرحيل , أيام ونغادر ترابك , عذراً يا بلادى والله ما كان مقصدى الهروب , فقط أردت السعادة والهدوء , لكنى سأعود إليك يابلادى عما قريب إن شاء الله .
 سأعود لأتمم كل رسالاتى , سأعود لأحقق أسمى غاياتى ... فمنك أنتِ سعادتى وحزنى بُعد السنوات ِ, ترابك يسرى فى دمى وعَلمُك يعلو فى سمواتى , سأبرهن لك بحبى ...  ألا ترى الإخلاص والوفاء فى نظراتى ؟ , لا لن تضيعى يابلدى فأنت للعروبة للسلم للحرب للغزوات , أبوء لك بحبى أنا واخوتى وصديقاتى .
أختار أبى مصر لتكون مرساً لنا , نِعم الإختيار يا أبى.
 بلد هادئ , سنمر عبر معبر رفح المصرى القريب منا , نحن هنا فى غزة لا يفصلنا الكثير عن مصر, مسافات قليلة بيننا وبين مصر .
 أبى يحتوينى أنا وإخوتى بين ذراعيه , وأخى " عَلى " فى يد أمى , فقد تعدى عمره السابعة عشرة.
 أضحى رجلاً يعتمد عليه كما يقول أبى دائماً , يعتبره أبى أخاً له وليس ولده فقط.
 لازلتُ فى سن صغيرة ثمان سنوات , ليس أكثر من ذلك بيوم ... فميلادى كان مثل اليوم ... الثالث من أيلول.
 أخى خالد فى الثانية عشر من عمره , وزياد عشر سنوات , أما حبيبة فأصغرنا , لازالت على ذراع أمى ... ثلاث سنوات وأشهر قليلة.
 أسرة صغيرة بالنسبة للأسر الفلسطينية , أقل أسرة عرفتها فى فلسطين عشر أبناء , هذا من أجل الكثرة , حتى لا يقضى علينا العدو.
 أبى ينوى الإكثار من الأبناء فى المستقبل , لازال شاباً أربعون عاماً , عسى أن نعود إلى فلسطين يوماً ونحن عشر أبناء أو أكثر كما يقول أبى .
اليوم السلطات المصرية قد فتحت معبر رفح من أجل مرور الفلسطينيين إلى أراضيها والعكس , سنعبر اليوم إن شاء الله .
مئات الفلسطينيين يعبرون ونحن معهم , أحضان دافئة للوداع , كم هو صعب فراق الأحبه.
 عذراً يا بلادى فهجرتى رغماً عنى , عينى تودع أغلى بلد إلى قلبى , لكنى ذاهبة إلى مصر .
أظن أنها تحتل مكانه غالية فى قلوب كل فلسطينى , من أول وهله فى أرضها , وأول ما وطئت قدماى أرضها شعرت بالأمان , هكذا قال عنها القرآن , حتى هم يكتبونها على بوابة المعبر " إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين ".
 حيا الله الأمان , لم أذقه قبل اليوم ... لم تراه عينى قط , لكن ها هو أمام عينى , أمن ذكره الله فى كتابه ... أمن مضمون إن شاء الله , لعلها تكون رحلة طيبة, عسى أن يمنحنا الله الخير فى هذه البلد الطيب .
لم يبلغنا أبى فى أى مدينة فى مصر سنكون , أعتقد أننا سنكون فى إحدى مدن الشمال , لكنى أتمنى أن تكون القاهرة , فهى فى وسط مصر تقريباً , بين الشمال والجنوب.
 عاصمة أكبر بلد فى الوطن العربى , هاهى العريش أذكر أن إبنة جارتنا متزوجة فى هذه المدينة , وغيرها كثير من الفلسطينيين , متزوجون من هنا أو متزوجون هنا , قدر المصاهرة معنا كبير .
إن أبى أخذنا للسيارات الذاهبة إلى القاهرة , حقاً إننا ذاهبون للقاهرة , السيارة سبعة ركاب ونحن سبعة سنكون فى سيارة وحدنا إلى القاهرة , كنت أتمنى أن يكون معنى مصريين فى السيارة.
 أريد أن أقترب من هذا الشعب وأتحدث معهم , عسى أن تكون هناك طفلة تركب معنا وأحاورها , لكن ليس لى حظ فى هذا.
 على كلاً سنعيش فى مصر وسيكون لى صديقات بالتأكيد.
 السيارة توجهت بالفعل للقاهرة , أبى يتحدث إلى السائق ويستشيره فى أى مكان فى القاهرة نسكن فيه , السائق يتحدث أن أى مكان فى القاهرة يصلح للعيش لكن هناك فروق فى المعيشه.
 فهناك أحياء راقية وأخرى شعبية, لكن على كلاً الجيران سيكونون على خلق حميد فى أى مكان , إن السائق يبدو بدوياً لهجته تميل إلى ذلك , تأكدت من ذلك عندما قال أنه من بدو سيناء , لكنه يعشق القاهرة ... يثنى على أهلها كثيراً .
 ومن منا لا يعشق القاهرة .
ها هى القاهرة تبدو على مسافة قريبة , سبع ساعات مضيت ونحن فى السيارة , سبع ساعات كانت كفيلة أن تصيبنا بالإرهاق والتعب.
 أبى أعطى مبلغاً إضافياً للسائق من أجل أن يوصلنا داخل القاهرة , سنسكن فى فندق رمسيس هيلتون فى وسط القاهرة  بعض الأيام لحين أن نجد سكناً دائماً , أبى معه مبلغاً من المال ليس بقليل يكفى إن شاء الله لفترة " منيحة " .
كم إن القاهرة تذكرنى بغزة ... نفس الزخم السكانى والإزدحام الشديد , لكن القاهرة تتفوق فى كثير من الأمر , سيارات فارهة وبجوارها سيارات أجرة , تماماً كم قال السائق القاهرة بها شتى المستويات .
إن شرفة غرفتى فى الفندق إشتكت من وقوفى فيها , منظر النيل الساحر كفيل لأن يوقفنى ليل نهار فى الشرفه , حيا الله الجمال حول الماء , إن هذا الماء نحن محرومون منه فى غزة , إسرائيل تمنحنا القليل المتبقى منها , رغم أنه فى الأساس مائنا نحن.
إذا كان الخير فى مصر فهذا يسعدنا , لأن أمن ورخاء مصر أمناً لنا أيضاً.
الأيام تمر ولازال أبى يبحث عن المسكن , الأمر جد عسير ... لأن تجد شقة أو بيتاً تسكنه فى القاهرة ليس بالأمر السهل , دائماً ألح على والدى بأن يكون مسكننا قريباً من النيل , لكنه يؤكد لنا أن المسكن كلما إقترب من النيل كلما إزداد ثمنه .
أخيراً وصل أبى إلى مرادنا , وجد شقة فى منطقة المنيل ...الشقة  ليست على النيل مباشرة , لكنها قريبة منه.
أستطيع أن أشتم نسيمه وأنا فى شقتنا التى تقبع فى شارع فرعى فى المنيل.
مستشفى القصر العينى الشهير قريب منا , ثوان قليلة على قدمى أكون أمام النيل , لولا علمى بظروف والدى لتشبثت بشقة على النيل مباشرة. أنفق والدى الكثير من المال ونحن فى الفندق , فقد مكثنا فيه ثلاثة وعشرين يوماً , هذا إلى جانب إن والدى لم يجد عملاً بعد , فنحن ننفق مما لدينا من أموال التى بالتأكيد سيأتى عليها يوم وتنفد .
ظننت أن أبى سيرتاح باله بعد أن وجد سكناً لنا , لكنه دائماً فى حال لا يرثى لها , إن شراء الشقة قد أخذ أكثر من ثلثى ما يملك أبى , إنه يبحث عن عمل له , لكن أى عمل يصلح لك يا والدى سوى التجارة , مهنتك فى فلسطين ... المهنة التى ورثتها عن والدك , ربما تجد متجراً قريب من البيت لتؤسس تجارة جديدة لك فى مصر.
 سأساعدك وربى يا أبى رغم رفضك لأن أعمل , لأننى أحترمك وأعتز بك غاية الإعتزاز , يكفينى أنك تركت بلدنا فلسطين من أجل إلحاحى , ورغم ذلك أعدك بأن أتفوق فى دراستى , وأجعلك تفخر بى إن شاء الله .
حتى المتجر الذى وجده أبى وتعاقد عليه غالى الثمن , أبى يقول أن الباقى من المال يكفى لشراء البضائع لمتجرنا فقط .
رغم فرح أبى بالمتجر لكنه فى غاية الغضب من أخى على الذى قال لوالدى أنه سيكتفى بالتعليم الثانوى الذى حصل عليه من فلسطين كى يساعد والدى فى التجارة , على متشبث برأيه جداً حتى وصل الأمر إلى الخلاف مع والدى , لكن أمى بادرت بالوساطة وأقنعت الجانبين بحلٍ وسط وهو أن يكمل على دراسته ولكن بعد عام , أى أنه يساعد أبى فى بادئ الأمر حتى يتثنى لوالدى الوقوف على قدميه .
هكذا تمر الأيام ونحن فى سعادة تنقصها رؤية الأهل والأحبه فى فلسطين , وما هون علينا الأيام والغربة إلا طيبة الجيران رغم إنكفاتهم نوعاً ما.
ها أنا الأن فى الصف الثانى من المرحلة الثانوية وحبيبة أضحت فى الصف السادس الإبتدائى .
على حصل على بكالوريوس التجارة منذ عامين , وخالد فى عامه الرابع فى كلية الحقوق جامعة القاهرة , وزياد فى الفرقة الثانية فى كلية الإقتصاد والعلوم السياسية , أغلبنا فى مراحل التعليم وذلك ماأجهض أموال أبى أول بأول.
 بارك الله فى أخى على الذى ساعدنا كثيراً على العيش , أبى أصر أن يؤجر له شقه ليفتح له مكتب للمحاسبة , على لايهتم كثيراً بمكتبه إنه أحب التجارة حباً جماً , لولا خوفه من غضب والدى لأغلق مكتبه منذ إفتتاحه , حتى هذا الأمر كان سبب خلاف بينى وبين والدى, دائماً أحاول مساعدته لكنه يرفض .
أبى دائماً ينادينى ب " يا دكتوره " تمنى لى ذلك وأحب أن يرانى طبيبة , رغم عدم حبى لهذه المهنة فقلبى لا يتحملها , لكنى أعدك يا أبى أن أحقق لك مرادك إن شاء الله .
عسى أن أكون سبباً فى مداواتك يا غالى , أصابه فيرس سى بوباء فى كبده , منذ ثلاث سنوات تقريباً , الطبيب دائماً يطمئنا على صحته رغم أن حاله لا يوحى بهذا , صحته ليست مثل الماضى .
كان شديد وقوى ... أتمنى أن يأخذوا قطعة من كبدى ويضعوها له كى يشفى أو يأخذوا كبدى كله , فحياته أهم من حياتى أنا جزء لكن والدى كل, لا نستطيع العيش بدونه .
خالد بدأ بالوقوف مع والدى فى التجارة وذلك كل يوم عقب عودته من الجامعة , فلم يعد يستطيع والدى العمل بمفرده , قلبى معك يا والدى العزيز ...  أعلم أن غيابك عن العمل يوماً واحداً سيؤثر على حالتنا الإقتصادية , لكنى أفضل أن نموت جوعى ولا تمرض أنت .
أمى بدأت فى صناعة المشغولات اليدوية والحياكة للجيران وللمحال بغرض مساعدة والدى على مصاريف العيش .
حاولت أن أجد لنفسى دور فى هذا الأمر, لاعليك بشغل المنزل أنت يا أمى كفاك ما تفعليه , أنا وحبيبه نقوم بواجبات المنزل , لازالت طفله لكنها صاحبة مروءة تقاسمى شغل المنزل , بل وتعمل أكثر منى وتقول لى أن أهتم بدراستى أكثر حتى أحقق مراد والدنا وأُدخل السعاده إلى صدره .
أبى يريد أن يرانى متفوقه مثل زياد , فقد حصل زياد على تقدير إمتياز فى السنة الماضية , أبى يريده أن يكون معيداً فى كلية الإقتصاد والعلوم السياسية , وهذا ما وعده به زياد بالفعل , حتى أثبت نيته على ذلك بتفوقه وحصوله على الإمتياز , كم أنا فخوره بك يا زياد ...  مرة من أجل تفوقك وأخرى لأنك أسعدت والدنا .
أبى يقول أنه يفكر فى العودة إلى فلسطين , دائماً يقول أنه يريد أن يموت فى فلسطين ويدفن هناك , أطال الله عمرك يا والدى العزيز , أنا أيضاً مشتاقة إلى فلسطين , لكن الحصار يمنعنا من العودة والمعبر مغلق , سنعود إليك قريباً يا فلسطين ليس إستيائاً من مصر , لكن هو الشوق والحنين إلى الوطن .
إن حال أبى لا يسر, المرض نال منه الكثير من الصحة , لم يعد كما كان فى صحة كاملة , الطبيب بدأ يقلقنا على صحة أبى , يقول أنه لابد أن يذهب إلى المستشفى للعلاج هناك وأنه لابد أن يكون " تحت الملاحظة " .
كل يوم أعود من مدرستى إلى المستشفى لزيارة والدى , أضحت الحياة كئيبة للغاية ... والدى يزداد سوءاً يوم بعد يوم , اليوم نقلوه إلى غرفة العناية المركزة , والزيارة بدأت تُمنع عنا , نراه من الخارج فقط ... وجهه الأبيض الجميل أضحى أسوداً يميل إلى الزرقه.
 أعلم جيداً أن أبى يشتاق لأن نكون جميعنا حوله , لكن العناية المركزة أحالت ذلك إلى جانب أن على وخالد دائماً فى المتجر يباشران مصدر رزقنا , حتى مكتب المحاسبة أغلقه على من أجل متابعة أمورنا.
اليوم ظهرت نتيجة الإمتحانات , خالد حصل على الليسانس بتقدير مقبول , وزياد تدنى تقديره هذا العام إلى جيد مرتفع , حبيبة لديها مادة لم تنجح فيها.
 حتى أنا لم أستطع تحقيق مراد والدى فقد حصلت على شهادة الثانوية بتقدير خمسة وتسعون من المائة , بالتأكيد لن يحقق لى هذا المجموع الإلتحاق بكلية الطب , كل هذا دون علم والدى فهو لا يعى من الأمر شئ , أكثر من شهر وهو فى غيبوبته , هذا كان السبب فى درجاتنا الضعيفة , بدأت الغيبوبة ونحن فى الإمتحانات , هذا ما دمر خلايا تركيزنا وتفكيرنا , أخى على دائماً يواسينا على تلك التقديرات الضعيفة بالنسبة لما كنا ننتظره ويحاول التخفيف عنا .
الدنيا أضحت بلا لون ولا طعم ولا رائحة , الدنيا لا تساوى شئ بدونك يا أبى .
ندعوا لوالدنا ليل نهار ... كلنا حوله فى المستشفى لا نفارقه أبداً , ليس لنا غيره بعد الله.
 على أصبح يراعى كل أمورنا يحاول أن يجعلنا نشعر بالأمان هو حقاً رجل كما يعتبره الغالى أبى.
أهفو أن يعود أبى يجلس بيننا ... نحكى له مواجعنا وآلامنا كما كنا نفعل فى الماضى, أشتاق إلى حضنه الدافئ ... أتذكر ليالِ وأيام الطفولة التى كنت فيها دائماً بين أحضانه .
اليوم ظهر التنسيق الخاص بى, إلتحقت بكلية الألسن جامعة عين شمس, كلية جميلة جداً تناسب تفكيرى وعقلى, لكن لم أحقق حلم والدى ... لعله يسامحنى عندما يفيق من غيبوبته إن شاء الله.
 على كلاً سأذهب إلى الجامعة وأكمل مسيرتى فهذا نصيبى الذى كتبه الله لى... لعله خير.
على يقول أن الظروف لو تحسنت قبل بدأ الدراسة سيلحقنى بكلية الطب بإحدى الجامعات الخاصة , إنها تأخذ مبالغ طائلة فى العام الواحد, إنه مجرد حلم ياعزيزى لا تبالغ فى الأحلام الوردية , إنها إرادة الله هو كتب لى ذلك وأنا راضية يا أخى لا تشغل نفسك بأعباء أكبر من أن نفكر فيها, علينا أن نوجه كل قرش يأتى فى أيدينا إلى علاج أبينا .
كنا نود أن نجرى له عملية لكن هيهات , فالعملية تتطلب الكثير من المال , خالد يقترح بيع الشقة والإستفادة من ثمنها فى علاج أبى , واستئجار بدلاً منها إيجار طويل المدة , أعتقد أنه إقتراح طيب المنزل كله يؤيد إقتراح خالد .
فعلاً بعنا الشقة واشترينا بدلاً منها فى مكان أخر ... مدينة جديدة إسمها " العبور ", تبدو فى أول الصحراء ... مدينة هادئة نوعاً ما, المعيشة فيها أقل من المنيل , حتى أن ثمن الشقة الجديدة يعادل ربع ثمن شقة المنيل , دفعنا ثمن العملية ستجرى إن شاء الله مطلع الأسبوع القادم , كلنا على أمل كبير فى أن يوفق الله الأطباء ويعود أبينا يمارس حياته الطبيعية ويعود الفرح ويملئ جنبات شقتنا الجديدة .
اليوم ميعاد العملية ... كلنا حول غرفة العمليات ذاهبون آيبون حيارى مشغولين بوالدنا , آملون أن يعود اليوم معنا إلى البيت.
الوقت يمر ... منذ ثلاث ساعات وهو فى غرفة العمليات , الطبيب أرسلنى لآتى بأدوية قد نفدت من المستشفى , أبى سيحتاج هذه الأدوية فور خروجه من غرفة العمليات , كان زياد يريد أن يأتى هو بالأدوية لكنى صدرت عنادى.
 أريد أن أشعر بأننى صنعت شيئاً لوالدى ولو كان بسيط , إن هذا النوع من الأدوية غير موجود فى الصيدليات التى حول المستشفى, أرشدنى طبيب بأن أتوجه إلى وسط البلد, وبالفعل وجدت الدواء فى إحدى الصيدليات وعدت على الفور, منذ ساعة ونصف وأنا فى البحث عن الدواء .
 هكذا أبى فى غرفة العمليات منذ خمس ساعات ونصف, أخذت سلم المستشفى فى ثوان معدودة, ها هو الطابق الثالث من المستشفى , ما هذا الصراخ والنواح؟
 ... ماذا جرى ؟!!!
أيكون ......... لاقدر الله ؟.
 لا لا حاشى لله ؟
إنه فعلاً ... أبى قد فارق الحياة , الأخوة فى حالة هستيرية , أمى على الأرض فاقدة الوعى , لالا إنه لازال حياً.
 ها هو الدواء يا أبى لا تمت بالله عليك , خذ ها دواءك يا أبى ستبقى بيننا إن شاء الله وسنكمل المسيرة التى تحلم بها.
 إنه حقاً مات ... لا يرد على كلامى , أنا الأن بين أحضان أخى على, دموعى بللت قميصه , إذن فقد مات أبى حقاً, سامحك الله أيتها الدنيا , لا ليست الدنيا إنه القدر, تركنا الحصار والدمار لنعيش فى سلام وهدوء , وها هو الموت جاء خلفنا من فلسطين.
 مكتوب على أكتافنا الموت فى أى مكان نكون فيه, هكذا نحن الفلسطينيين تضاجعنا الأحزان وتنام بين أحضاننا.
وداعاً يا أبى وداعاً يا نور عينى.
 الحمد لله أننا بعنا شقتنا القديمة , كيف كنا سنعود فيها دون والدنا.
إن عمى علم بوفاة والدى ولا يستطيع المجيئ لمشاطرتنا الأحزان, لازال المعبر مغلق ... ليس مكتوب لك العزاء فى أخيك يا عمى , لكن لا تقلق فقد ترك أخيك رجالا يعتمد عليهم , على وخالد وزياد أضحوا رجالاً يا عمى , لا تقلق نحن هنا بين أهلينا أيضاً, المصريين طيبيين يا عمى , إنهم معنا كل يوم يشاطرونا ويواسونا الأحزان والآلام , إنهم سكناً لنا.
على باع المحل القديم فى المنيل وأشترى محل كبير فى سوق العبور قريب منا إلى حد ما , فعل ذلك رغماً عنه وعنا, لم يستطع الجلوس فى المحل القديم دون والدى , من يجلس من إخوتى فى المحل القديم تصاحب الدموع خديه, كان الأفضل ترك المكان حتى لا نصاب بالموت حزناً.
عامين على وفاة والدى, لازلنا نرتدى ملابس الحداد, أمى صاحبة العيون الزرقاء إرتدت نظارة طبية, قد ضعف بصرها من الحزن, كم كان أبى يغازلها بعينها أمامنا, تبدو صغيرة على الحزن أمى, لازالت فى شبابها رغم أن الحزن أخذ الكثير من جمالها.
السنة الثانية فى كلية الألسن قسم اللغة الفرنسية, حصلت على تقدير جيد جداً والحمد لله , وزياد إستعاد نشاطه وحصل على إمتياز فى العامين الماضيين , قررت الجامعة تعينه معيداً فى الكلية ... الثالث على دفعته , أين أبى ليفخر بك يا زياد , وحبيبة الأن على وشك دخول الثانوية تقول لى أنه ستعوض ما أضعته أنا, تحلم بأن تكون طبيبة ... تريد إسعاد والدى فى قبره, حياك الله يا حبيبة قلبى.
جاءت بعثه دراسية إلى زياد فى روسيا للحصول على درجة الماجستير فى إحدى الجامعات هناك هو وعشرون من طلبة جامعة القاهرة, أمى ترفض الأمر بشدة تقسم عليه ألا يسافر.
كلنا يحاول إقناع أمى بالأمر لكنها ترفض بقوة, تخاف علينا ... لا تترك أحداً منا ينام خارج المنزل حتى لو كان ذلك فى العمل, إن سفر البعثة غداً.
 زياد حلمه أن يسافر وأمى متشبثه برأيها, وأقسمت أنها لن توقظه فى الصباح للحاق بالطائرة, فقرر السهر حتى الصباح ... لكنه صلى الفجر ونامت عيناه على سريره الذى كان يقرأ كتاب عن اللغة الروسية عليه , لم يكن يريد النوم خوفاً من موقف أمى لكنه نام رغماً عنه.
 فرحت ًأمى جداً بنوم زياد فأوصدت الباب عليه, أنا غير مؤيده لذلك فهى فرصة عظيمه من وجهة نظرى لا ينبغى أن تضيع, فكرت فى خداعها وفتح الباب لإيقاظ زياد لكن حبيبة منعتنى من ذلك بحجة غضب أمى وحزنها وكيف لن تودع زياد عند سفره,
 ميعاد الطائرة فى الثامنة صباحاً لعله يقوم وحده وحينها نتصرف فى الأمر.
ذهبت أنا وخالد للملاحاة على أمى من أجل الموافقة لم يعد سوى ساعة واحدة على إقلاع الطائرة, يا أمى بالله عليك ِإتركيه يأخذ تلك الفرصة. الملاحاة دون جدوى حتى حبيبة تؤيد أمى فى موقفها.
إن زياد نومه خفيف لمذا لم يقلق حتى الأن, الأمل الوحيد أن يقوم زياد الأن ويتدلل عليها من أجل الموافقة فتفتح له الباب وتودعه .
الساعة تعدت التاسعه نجحت أمى فى مرادها, وأصرت ألا توقظه إلا أن يقوم هو فيكتشف الأمر ونقول له أننا نسينا ميعاد الطائرة , رغم أنه يعلم بموقفها جيداً لكنها تمنع بطريقة غير مباشرة, تريد أن تقول له أنها كانت تنوى إيقاظه لكنها غفلت عن ذلك , وأنها تراجعت عن موقفها حتى لا يحزن هو , حيلة ضعيفة تلك والله يا أمى,
 على كلاً أنا ذاهبة إلى الكلية فعندى محاضرات هامة اليوم وعند العودة أواسى زياد على ما فاته وأقنعه بأن يكمل أحلامه هنا فى جامعته .
الساعة إقتربت من الواحدة ظهراً ولازالت أمامى محاضرة, لكنى لن أحضرها حتى أعود إلى المنزل وأواسى زياد وألحق بالغداء مع العائلة كلها فى وجود خالد وعلى وحبيبة بالتأكيد عادوا إلى المنزل .
السلام عليكم يا أمى , الجو يبدو هادئاً أمى جالسة أمام التلفاز تشاهد وتقلب فى قنواته , إنتظرى يا أمى إتركى الفضائية المصرية , يبدو أن هناك حدث هام.
 إن المراسل يقول أن الطائرة التى سافرت بالطلبة اليوم قد سقطت فى بحر قزوين ومات جميع من فيها ويشكك فى أن الأمر مدبر, لأن الطائرة كان عليها أساتذه ذو مكانة علمية راقية من مختلف جامعات مصر وأيضاً كان عليها أستاذ من كلية العلوم مرشح بقوة لنيل جائزة نوبل فى العلوم.
أمى ملئت البيت زغاريد وأخذتنا بين زراعيها, أنظروا إلى قلب الأم ... حقاً قلب الأم دليلها , إفتحوا الباب وأيقظوا زياد كى يرى صواب كلامى , خذى المفتاح يا حبيبة هيا بسرعة إفتحى وهنئيه على النجاة, دخلنا جميعنا على زياد لازال نائماً أكنت مرهق لهذه الدرجة يا أخى , زياد قم يا زياد إنك قد نجوت من الموت , قم وأنظر إلى ما حدث.
 أنت معنا فعلاً يا غالى ولم تمت والحمد لله.
زياد لا يرد يا أمى ولا ينطق بشئ, قم يا زياد لنهنئك قم بالله عليك, زياد لا ينطق يا أمى ماذا جرى يا أخى قم ولا تقلقنا, النفس مقطوع تماماً ... أتى خالد بالطبيب ليرى ما فى .
 لا تقولها أيها الطبيب لا تنطق بالله عليك.
 زياد مات يا أمى فرحك لم يتم , كان الموت مكتوب هنا أو فى الطائرة , كتب الزمان فوق ظهرى أن أبقى دوماً فى عناء, أن يبقى جسدى عارياً تلفحنى موجات السقيع فلا غطاء, الموت يسكن فوق منزلنا.
 لا لا بل فوق أكتافنا فقد تركناه فى شقة المنيل جاء ورائنا إلى مدينة العبور.
 زياد مات لا أصدق ذلك , مات الطموح ... مات الحلم ... ماتت الأمانى ... مات المستقبل , لا أظن أن شئ فى الدنيا يستطيع مداوات جراحنا الغائرة, ماذا لو كنا لازلنا فى فلسطين أيكون الوضع غير ذلك.
أيكون أبى لازال حياً وزياد كذلك, أم كانا سيموتا شهداء فى سبيل الله , إن موتتهم هذه لا تقل عن الشهادة فأبى مات مبطون وزياد مات وهو ينوى طلب العلم فى بلاد بعيدة, رحمة الله عليكم يا أعزاء.
 دفن زياد بجوار والده فى قبر واحد , إنى أحسدك يا زياد لأنك ستنام بجوار أبى ليل نهار, ليتنى كنت مكانك وأنال هذا الشرف .
أضحينا خمسة فى المنزل فقط , راح منا إثنان ... أضحينا ركاب فى موكب الأحزان.
 أمى شلت ذراعها اليسرى من حزنها, لم تعد تتحمل أكثر من ذلك, لولا بقايا الصبر الذى تتلحف به أمى لماتت هى الأخرى من الحزن .
 كل يوم تقبلنا قبل النوم وعند الإستيقاظ ... ترافقنا دائماً لم يبق سوى أن تذهب معى أنا وحبيبة إلى جامعتى ومدرستها , ومع خالد وعلى إلى العمل .
أضحى شاهر إبن عمى هو الذى يتابع أحوالنا بعد موت أبيه العام الماضى, مات موتة طبيعية كان كبير السن ... مات فى حوالى السبعين من عمره, شاهر أيضاً كبير بالنسبة لنا ... إثنان وأربعون عاماً , تربى مع والدى وكأنهم أخوة, أبى كان من أم وعمى من أخرى ... جدى كان متزوجاً من إمرأتين.
 إن شاهر له ولد فى سن أخى خالد , دائماً يراسلنا عبر الإنترنت , طلب يدى للزواج منذ أيام من أمى ولكنى رفضت ليس لعيب فيه ولكن لأنى أريد العمل ليس أكثر الأن , فبعد تخرُجى إلتحقت بصحيفة لوفيجاغو اليومية الى تصدر من باريس, أراسلها من هنا من مصر, كم كنت أود مراسلتها من فلسطين لنقل أوجاع بلادى إلى العالم.
حبيبة أضحت فتاة جميلة أنهت هذا العام دراستها الثانوية وألتحقت بكلية الصيدلة جامعة القاهرة, إبن شاهر مُصر أن يصاهرنا , حتى أقنع حبيبة بالزواج منه وأن تكمل دراستها فى الجامعة الإسلامية فى غزة, وهذا ماتم بالفعل وافقت أمى لأنها إشتاقت للفرح, على أن يتم الزواج فى أقرب وقت يفتح فيه معبر رفح, ليس غريب أن تتزوج حبيبة فى هذا السن الصغيرة , ففى فلسطين نتزوج صغار من أجل أن ننجب كثيراً لأننا نقدم شهداء كل يوم.
على تقدم لفتاة كانت معى فى الثانوية, لكنها حصلت على ليسانس الأداب ولازالت صديقتى , إتفقنا أن يكون الفرح بعد عام ونصف , اسمها على إسم أمى مريم , على يحبها جداً يعرفها منذ أن كانت تذاكر معى فى الثانوية, فتاة على خلق كبير ... على أحياناً يناديها بيا أمى, هى فعلاً تحترمه وتحترم كفاحه ورجولته , نِعم الأخ هو .
المنزل بدأ يخرج من أحزانه بعد الخطوبتين , حتى خالد إستقر على فتاة حسناء كانت جارتنا فى المنيل, قصة حب توجت بخطوبة ... رغم أنه تردد كثيراً فى هذا الأمر , لأنهم يعيشون فى مستوى أرقى منا ... يعيشون فى طبقة ارستقراطية , كان متوقع أن أهلها سيرفضونه لكنهم رحبوا جداً به, وتمت الخطوبة على خير.
 أقسم والدها أن يجهز لهما كل شئ , خالد يرفض ذلك يعتبره إنقاص من رجولته, لكن والدها أقنعه بأن الظروف التى نعيشها نحن ليس لنا ذنب فيها, خالد شاب وسيم جداً يشبه أمى فى كثير من الملامح , نفس العيون الزرقاء والشعر الأشقر ... ويشبه أبى فى قوامه الطويل, الذى كان يشبهه أيضاً زياد رحمه الله .
وصل اليوم أكرم إبن شاهر بن عمنا ومعه أبيه وعمته سندس لإتمام زواج أكرم من حبيبة.
أكرم يعمل موظفاً فى السفارة الفلسطينية فى عَمان , ستعيش حبيبة مع أسرته فى غزة لحين الإنتهاء من مدة عمله فى عمان هذا العام ... سيعود للعمل فى غزة.
كم أن فراقك صعيب يا أختى, بالله عليكِ أن تزورينا كلما فتحوا المعبر, عُرس ليوم واحد ثم يسافروا غداً قبل إغلاق المعبر, ما أكثر المجاملات المصرية فى هذا العُرس , لم يكلفنا ولا أكرم إلا القليل من الجنيهات .
 سافرت حبيبة مع زوجها أكرم, هكذا نفارق واحد بعد أخر, المنزل بات خراباً دون رجال وفتاة كنا نحبهم , عشنا معاً وسافرنا معاً من هناك إلى هنا, ذقنا المرار من كأس واحد تجرعنا الألم سوياً, لكنهم تركونا ولم يكملوا معنا الجراح, والله لولا تشبث شاهر بأن يزوج إحدانا لإبنه أكرم ما كنا أخرجناها.
 يقول أنه لابد أن يكون لعمه شئ فى فلسطين, شئ من رائحة أبى فى وطنه الأصلى .
رغم أن اليوم يمر وكأنه عام, إلا أن زواج حبيبة مضى عليه عامان ونصف وذلك دون أن تأتى لزيارتنا, لم يفتح المعبر من حينها , ما صبر أمى وصبرنا الإتصال عبر الإنترنيت ورؤية حبيبة عن طريق الكاميرا الإلكترونية كل أسبوع تقريبا, نتمنى أن تحضر زواج أخيها على ... لم يبق عليه سوى أسبوعين, سيتزوج معنا فى شقتنا, هو كبيرنا ولابد أن يكون بيننا.
 قلت له أن يؤجر شقة قريبة منا حتى يستطيع إسعاد زوجته, لكنه تمسك بالجلوس معنا وما ساعده على ذلك مريم خطيبته التى قالت لنا أنها لن تقبل بالزواج خارج شقتنا, نِعم الزوجة والله يا على هكذا الطيبون للطيبات , أنت طيب وبارُ بنا وبأمك ودعاء والدك لك يكفيك , أسعدك الله وأدخل الفرح إلى قلبك وقلوبنا.
الأستاذ رمزى والد سارة خطيبة خالد, حجز له أسبوع فى فندق بالغردقة لقضاء شهر العسل كهدية, دعوات والدنا لنا تصاحبنا ... كثير من الناس يحبوننا ويتمنون مساعدتنا بأى شكل, المصريين الذين يعرفوننا يعتبرون أن مساعدتنا والوقوف إلى جوارنا واجب وطنى تجاه فلسطين.
العمر يمر بسرعة أنا الأن تعديت السادسة والعشرين ولم أتزوج بعد , تقدم لى شاب مصرى يعمل صحفى فى صحيفة مصرية, لكنى رفضت لأنه من إحدى مدن الصعيد ويريدنى أن أذهب معه إلى هناك, المسافة بعيدة بين بلده والقاهرة, سيبعدنى عن عملى وعن أمى وعن الباقى من إخوتى, العنوسه أهون من وجع البعاد والفرقه.
حبيبة وصلت اليوم لزيارتنا هى وزوجها ومعهما إبنتهما هاجر, أسمتها على إسمى حياك الله يا غالية, نعم الأخت يا حبيبة.
 أمى تلح عليها أن تترك لنا هاجر الصغيرة معنا هنا فى مصر لتواسى وحدتها , بعد زواج خالد خارج المنزل فى شقة فى ميدان الجيزة , أضحى المنزل ليس فيه إلا مريم زوجة على وأنا , لكنى فى شغلى طوال اليوم ومريم تقوم بأعمال المنزل, وآلام الحمل تجعلها غالباً على سريرها , إنها فى شهرها الثامن, وعدت حبيبة أمى بأن تترك لها هاجر ولكن فى الزيارة القادمة حتى يشتد عودها وتكبر, وتكون أنجبت ما فى بطنها أيضاً, هى الأن فى حمل جديد فى بدايته .
طفل جديد رسم البسمة على شفانا , أنجبت مريم طفل جميل ... أسماه على " كمال " على إسم والدى رحمه الله ... هكذا فرحنا وفرحت أمى بكمال الحفيد, ستعود وتردد إسم أبى على لسانها, السعادة عادت لتفترش تحت أقدامنا الحمد لله على كل حال , لكن أمى لا تحمل هَم قدر ما تحمل همى أنا ...  تريد أن تزوجنى وتطمئن على مستقبلى , فلم يبق إلا أنا بدون زواج, دائماً ما يأتى رجال للزواج منى وأنا أرفض, تعودت على هذا الوضع, لن أسمح لأحد أن يأخذنى من أمى حبيبة قلبى.
عَلِىْ تأخر فى العمل اليوم , ربما يكون فى السوق يشترى بضائع للمحل , لعله بخير إن شاء الله ... مريم فى شرفة المنزل حتى الأن تنتظره, العشاء على السفرة منذ ساعة , نِعم الزوجة والله يا على بارك الله لك فيها.
 كمال بين أحضانها ينتظر هو أيضاً أباه بعيون بريئة لازالت فى عامها الأول, أنت رجل البيت يا كمال حتى يرجع أباك من العمل, ستكون مثل جدك إن شاء الله , أمى تجلس كل خمس دقائق على كرسى تبدو قلقة, لم نتعود على غياب أخى على إلى هذا الوقت, حتى أنه لا يرد على هاتفه ... منذ ساعة وأنا أحاول الإتصال به ولا يرد, الساعة تعدت الواحدة بعد منتصف الليل, إتصلنا بخالد ليتصل به على هاتف صديق له معه فى المحل, خالد جاء إلى المنزل ويقول أن صديقه أيضاً لا يرد, إزداد توتر أمى وقلقها ... الأمر حقاً أصبح يحير لم يتأخر عَلِى عن الساعة العاشرة مساءً قبل ذلك , ذهب خالد إلى المحل لكنه مغلق من التاسعة ونصف , هذا ما قاله حارس الأمن فى السوق .
الساعة الأن الثالثة فجراً ... مريم فى حالة إنهيار وقلق ... أمى أكثر منها قلقاً لكنها تصبرها وتؤازرها وأنا لم أنطق ببنت شفه أبدو خائفة , هاتف المنزل ... إنه صوت رنينه ... أكيد هذا على, لكن لمذا لم يطلبنا على الهاتف النقال ...؟
خالد قام ليرد على الهاتف , لا يصح أن يرد النساء على الهاتف فى وقت متأخر, هذا ماعودنا عليه والدى رحمه الله , خالد يرد على أسئلة ويقول نعم أنا ...
 هذا منزله ...
 أنا أخيه ...
 أين مكانه ... ماذا ...؟
 وضع خالد سماعة الهاتف على الأرض  وسقط على الأرض يبكى بهستيرية, قامت أمى على الفور وأمسكت السماعة من الأرض وكلمت الطالب.
 يا حسرتنا ويا سوء حظنا فى هذه الدنيا, على مات فى حادث على الطريق الدائرى, كل مَن فى السيارة ماتوا لم يبق منهم حياً واحداً.
 الوحيدة التى تنوح وتبكى مريم زوجة على, أما أنا وأمى كل واحدة فى ركن من أركان المنزل لانبكى ولا ننوح ... عينانا تنظر فقط لا تتكلم , تعودنا على مثل هذا ... الحزن والألم شئ طبيعى فى حياتنا.
الفرح هو الغريب يأتينا كل سنوات مرة ويسافر ليترك لنا الحزن يضاجعنا , أمى تنظر لى وإلى خالد دون كلام ... خالد بين ذراعى زوجته سارة يبكى مثل الأطفال , لم يبق إلا هو من الرجال.
من يصدق أن على رافق أبى وزياد فى القبر , لمذا يا قدر تجاورنا نحن ؟ أليس فى الكون غيرنا, لولا علمى أنك من عند الله لبحثت عنك وقتلتك , لكن أين مكانك ... بالتأكيد فوق أكتافنا, بنيت بيتاً لك فوق أكتافنا ورؤسنا نحن.
كما كنت صاحبة إقتراح المجئ إلى مصر, أنا الأن أطلب العودة إلى بلدى لنموت هناك, بالتأكيد الدور على خالد أو أمى أو أنا أو حبيبة... فلم يبق إلا نحن , راضية بقضاء الله وربى راضية ... لكن أود أن يكون موتى فى فلسطين .
أمى تعترض على ذلك ... فى هدوء ميت تقول أنها تريد أن تُدفن مع أبى وإخوتى , فالموت قادم لا محالة ... تقول أن الدور عليها , هى تشعر بذلك تنتظر فراقنا الأمس قبل اليوم ,
سأزعن لرأيك يا أمى وسنبقى فى مصر , سنبقى حتى النهاية والحمد لله على كل شئ يأتى منه .
اشتقت إلى النيل الذى كان من أسباب إختيارى لمصر لتكون مرسى لنا , ولأننى أحبه سأشكى له حالى لعله يخفف عنى مواجعى , لعل طميه يقبل خدى ونسيمه يلعب بشعرى وشاطئه يداعب شفتاى فيرسم عليها الضحكات الباهته.
  شفتاى التى تشققت من دموع عينى الباكية .
يرضيك يا نيل ما جرى , أتعلم يا نيل أننى لو أخرجت الدمع المكتوم فى عينى لكونت نهر أكبر منك.
 لا ... ليس نهر سيكون بحر لأن دموعى مالحة مثل البحار, أُكون بدموعى بحراً تمر فيه سفن الأحزان وقبطانها أمى , فهى خير من يقود سفن الأحزان, فى بحر تجمدت مياهه المالحة من برودة الحزن والألم .

                                                                          إنتهت